كأصل عام لا تخضع احكام التحكيم لطرق الطعن في الاحكام المنصوص عليها في قانون المرافعات ولا للأسباب الواردة به الا ان قانون التحكيم قد أجاز للخصوم الطعن في حكم التحكيم للأسباب الواردة حصرا به وتعرف هذه الدعوي بدعوي بطلان حكم التحكيم. فاذا ما توافرت احدي هذه الحالات فان حكم التحكيم يكون عرضة للحكم عليه بالبطلان
ومن اهم هذه الحالات قضاء حكم التحكيم بما يخالف النظام العام
نصت على هذه الحالة المادة 3/2 بقولها ” وتقضى المحكمة التي تنظر دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية. وبذلك يكون المشرع قد حدد معنى النظام العام المانع من تنفيذ حكم التحكيم بأنه النظام العام الداخلي في مصر وليس النظام العام الدولي، فالنظام العام الدولي هو نظام عام مشترك بين كل الدول ونابع من المصلحة العليا للجماعة الدولية والواقع أن هذه الفكرة غير موجودة بالشكل الكافي والواضح والمحدد كما هو الشأن في النظام العام الداخلي. والنظام العام فكرة مرنة مطاطة تتابي على التعريف تختلف من مكان لمكان وفي ذات المكان تختلف من زمان لزمان، ولكنها فكرة طاردة لكل ما يخالفها وهي تعبر في النهاية عن المقومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الدولة. وإذ ا ما تعلق الأمر بحكم تحكيم أجنبي فإنه يجب فهم فكرة النظام العام الداخلي بمعناها الموجود في النظرية العامة للقانون الدولي الخاص، وليس معنى ذلك الالتجاء لفكرة النظام العام الدولي، وإنما الأمر مازال يتعلق بفكرة النظام العام الداخلي ذلك أن هذه الأخيرة تلعب دورا في مجال القانون الداخلي يختلف عن الدور الذي تلعبه في القانون الدولي الخاص. فدور فكرة النظام العام في القانون الداخلي يتمثل في ضمان عدم الخروج الإرادي عن القواعد الآمرة، وبالتالي فأية مخالفة لقاعدة آمرة تعد خرقا للنظام العام وذلك إذا كانت العلاقة وطنية بحتة. أما دور فكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص وفي مجال تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية فتتمثل في استبعاد هذا الحكم والقضاء ببطلانه على عكس الأصل الذي يقضى بسلامة هذا الحكم.
وعلى ذلك فإن دور فكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص يتسم بالطابع الاستثنائي بخلاف دور النظام العام في القانون الداخلي وعلى ذلك ليست أي مخالفة للنظام العام في إطار القانون الداخلي تعتبر كذلك في إطار القانون الدولي الخاص، وبعبارة أخري ليست كل مخالفة لقاعدة آمرة تعد مخالفة للنظام العام
كذلك يجب ملاحظة الأثر المخفف للنظام العام في مجال تنفيذ الأحكام عنه في مجال تطبيق القانون الأجنبي.
ويتحدد مفهوم النظام العام الذي يتعين إخضاع حكم التحكيم له بوقت ممارسة الرقابة على الحكم، والقاعدة المماثلة لهذا المبدأ والتي تطبق على الأحكام الأجنبية يطلق عليها مبدأ وقتية النظام العام، ومن هنا قد يحدث أن يكون حكم التحكيم متوافقا مع النظام العام لحظة صدوره بينما يعتبر ضد النظام العام لحظة إصدار الأمر بتنفيذه.
وكما سبق ان اشرنا الي ان احد بديهيات نظام التحكيم وهي قيامه علي التراضي وحرية الاختيار باعتباره ضربا من ضروب القضاء الخاص وكان من اهداف نظام التحكيم افساح مجال الاختيار لأطرافه علي اوسع نطاق ممكن وهو امر مفهوم في هذا النظام حيث يتشبع بحرية لا مثيل لها في نظم التقاضي الأخرى حرية في اختيار المحكم حرية في اختيار القانون الواجب التطبيق حرية في اختيار الاجراءات واجبة الاتباع كل ذلك تتوجه حرية الاطراف في استبعاد القانون الوطني حتي ولو كانوا يحملون جنسية الدولة التي يجري فيها التحكيم غير ان هذه الحرية يحدها قيد النظام العام الوطني وهو ما اقرته تشريعات معظم الدول ومنها التشريع المصري بطبيعة الحال حيث نصت علي وجوب احترام القواعد الرئيسية للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة وهذا الاحترام لا ينصرف فقط الي الدولة التي تم اختيار قانونها للتطبيق علي النزاع بل والنظام العام الذي يخص الدولة الطرف في التحكيم .
ولا شك ان قيد النظام العام يبدو سلسا وواضحا ولا يثير كثيرا من المشاكل عندما يكون التحكيم داخليا وذلك لسببين الاول ان التحكيم الداخلي يتم تحت بصر الدولة وقد يؤول امره الي قضائها إذا توافرت اسباب الطعن في قرار المحكمين فهو في هذه الحالات يقع في نهاية المطاف تحت سطوة النظام العام الداخلي.
وحاصل ذلك ان النظام العام هو الخط الاحمر الذي لا يجوز للتحكيم ان يتجاوزه وهو القيد النهائي على حرية التحكيم واستقلاليته.
الا انه لا يوجد تعريف واحد جامع مانع للنظام العام فالفكرة ذاتها مختلفة من مكان لأخر ومن زمن الي زمن لذلك يعتبر تحديد الفكرة من الامور الصعبة في عالم القانون وقد حاول الفقه ان يجد لها تعريفا في اطار صياغات متعددة ومتنوعة فهي عند البعض ” مجموعة المبادئ الاساسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي واللازمة لممارسة الدولة لوظائفها وترتيب مؤسساتها ” وعند البعض الاخر ” هي مجموعة القواعد والاطر التي يستند اليها المجتمع في بنيته الاساسية ” الا ان هذه التعريفات لم تصل الي حد الحسم في تحديد مفهوم النظام العام ومضمونه وتطبيقاته.
اما في نطاق القانون الدولي الخاص: فقد عرفت فكرة النظام العام باعتباره دفعا لاستبعاد القانون واجب التطبيق فحين يكون القانون الاجنبي واجب التطبيق وفقا لقاعدة الاسناد الواردة في القانون الوطني مخالفا للنظام العام فانه علي القاضي الوطني ان يستبعد هذا القانون من التطبيق في دولته وعلى هذا الحكم نصت صراحة المادة 20 من القانون المدني المصري ” لا يجوز تطبيق احكام قانون أجنبي عينته النصوص السابقة إذا كانت هذه الاحكام مخالفة للنظام العام والآداب العامة في مصر “
وهو ما ينطبق تماما في مجال التحكيم لذات الحكم وصولا الي ذات الهدف وهو حماية المصالح الجوهرية للمجتمع من تطبيق قانون أجنبي قد يكون مخالفا للنظام العام في مصر ومن هنا كانت الوظيفة المانعة التي يؤديها النظام العام في استبعاد القانون الاجنبي المطلوب تطبيقه على محل منازعة التحكيم وتبدوا اهمية هذا المانع في مصر ان للنظام العام وجها علمانيا فضلا عن وجه اخر ديني يستند الي المبادئ قطعية الثبوت والمتصلة بالعقيدة الاسلامية.
اما النظام العام في مجال القانون الداخلي: فهو اوسع مدي اذ يصب أثره في استبعاد كل تعاقد وكل شرط ورد في العقود إذا اصطدم بالقانون العام الوطني اي انه يعد قيدا على حرية الارادة وعلى حدود سلطانها وهو امر طبيعي في النظام العام الداخلي حيث تتقيد مشروعية العقود ومشروعية شروطها بقيود عدم مخالفة القواعد الامرة في القوانين الداخلية.
وينبني علي الاختلاف النسبي بين وظيفة النظام العام في القانون الدولي الخاص عنها في القانون الداخلي ان الاول اكثر ضيقا بحكم الطابع الاستثنائي للأخذ به في حين ان الثاني اكثر اتساعا بحكم انه يعبر عن مبدا عام وليس عن حالة استثنائية لذلك فان مخالفة القانون الاجنبي للقواعد الامرة في القانون الداخلي ( قانون القاضي ) لا يؤدي بالضرورة الي استبعاده سواء في مجال القضاء العادي او في مجال التحكيم ومثال ذلك تحديد سن الرشد بأحدي وعشرين سنة في القانون الوطني لا يعد مانعا رغم كونه من النظام العام من تطبيق القانون الاجنبي اذا كان هذا الاخير يحدد الرشد بسن اعلي من القانون الداخلي .
لذلك فان هناك الكثير من الاحكام الصادرة عن هيئات تحكيم دولية وضعت صياغة تقرر المفارقة بين النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي في علاقة كل منهما بمبدأ قابلية النزاع للتحكيم
اتساع مفهوم النظام العام الداخلي في بعض النظم الاقتصادية
لا شك ان تطور بعض النظم الاقتصادية في بعض مراحل التطور الاقتصادي في المجتمع الحديث قد ادي في هذه النظم الي اتساع دائرة النظام العام المسمى النظام العام الاقتصادي وهو تطور حديث نسبيا في اتساعه فقد شهدت الدول ذات التوجه الاشتراكي القائم علي تدخل الدولة في الانشطة الاقتصادية تدخلا امرا يقيد حرية الافراد ويستبعد في كثير من اوجهه مبدا حرية التعاقد وهذا التوجه الاقتصادي هو تنظيم اجباري للعلاقات الاقتصادية وهذا النظام العام يحقق في الدول التي تتوسع في مفهومه غاية اساسية بالنسبة لها هي تحقيق التوازن في المصالح بين فئات الشعب عجز عن تحقيقه مبدا سلطان الارادة ومن ذلك في مصر : قوانين حماية الرقعة الزراعية و قوانين الاصلاح الزراعي وقوانين حماية المستهلك في بعض جوانبه والقوانين المتصلة بأمن الدولة العليا.
ومع ذلك فلابد ان نلاحظ ان توجها حديثا قد عم معظم دول العالم في التقليل من اسباب التدخل ومظاهره جنوحا نحو اتساع دائرة اقتصاديات السوق والحرية الاقتصادية خصوصا في إطار منظمة التجارة الدولية ومحاربة عوائق هذه الحرية.
النظام العام وقابلية النزاع للتحكيم
من الشروط المبدئية لصحة اتفاق التحكيم ان يكون موضوع النزاع قابلا لان يسند امر حسمه للتحكيم وهي مسالة تصب مباشرة في مدي صلاحية هيئة التحكيم بالفصل في موضوع النزاع فاذا كان الامر غير قابل للتحكيم فان الاختصاص بالفصل فيه يعود للقضاء العادي وهناك العديد من الموضوعات غير القابلة للتحكيم تصب من حيث المبدأ في حمي النظام العام من اهمها المسائل الدستورية فلا يجوز ان ينصرف اتفاق التحكيم الي الفصل في دستورية قانون او لائحة او تفسيره ويأخذ حكم المسائل الدستورية في هذا المعني المنازعات حول شرعية القرارات الادارية او استحقاق الضرائب العامة او مقدارها وكذلك الحال بالنسبة لصحة الاجراءات القضائية او صحة الاحكام الصادرة عن المحاكم بجميع درجاتها او اختصاص المحاكم فكل هذه المسائل غير قابلة للتحكيم لتعلقها بصلب النظام العام الخاص بسيادة الدولة .
اما في مسائل الاحوال الشخصية فلا يجوز التحكيم في مشكلات حالة الشخص من حيث جنسيته او اهليته وجودا وعدما او كمالا او نقصانا او من حيث صفته ذكرا او انثي متزوجا او اعزبا او مطلقا او ارملا كما لا يجوز الاثبات في مسائل النسب او نفيه ومسائل الحضانة والولاية علي النفس والولاية علي المال فكل هذه الامور ينظمها القانون تنظيما امرا يختص قضاء الدولة وحده بالفصل فيه كما لا يجوز التحكيم في ثبوت حقوق الزوجية من حيث وجوب الطاعة ومبدا الحق في النفقة او الحق في الطلاق او الحق في الخلع كما لا يجوز التحكيم عموما في مسائل اوجب القانون فيها تدخل النيابة العامة .
ومع ذلك يجوز الصلح علي المسائل المالية التي تترتب على الحالة الشخصية او التي تنشا عن ارتكاب الجرائم طبقا لنص المادة 551 من القانون المدني.
اما المسائل المتعلقة بالجرائم والعقوبات فلا يجوز التحكيم في المسائل المتعلقة بالجريمة والعقوبة ذلك ان الجريمة هي في المقام الاول اعتداء علي الامن العام قبل ان تكون اعتداء علي شخص بذاته وبالتالي فالاختصاص بتقرير وتحديد ما هي الجرائم وما هي العقوبات المرصودة لكل منها هو اختصاص محجوز للدولة متعلق بسيادتها وبحكمة الشرعية الجنائية ” لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ” كذلك الحال بالنسبة لتوقيع العقوبات وتنفيذها فالأمر فيهما محجوز لقضاء الدولة وسلطتها التنفيذية والادارية ولا يجوز التحكيم في ذلك وهو ما يعود الي مبدا ” ما لا يجوز الصلح فيه لا يجوز التحكيم فيه ” بل ان تجويز التصالح في بعض الجرائم لاعتبارات الملاءمة التي يقدرها المشرع احيانا لا يجيز التحكيم فيها فإجازة التصالح الذي تنقضي به الدعوي الجنائية في جرائم الشيك او في بعض جرائم المال العام لا يجيز التحكيم في شانها .
وعلي ذلك واذا عرض حكم تحكيم علي محكمة مطلوبا بطلانه فان المحكمة لا تتعرض لمسالة البطلان في باقي البنود من تلقاء نفسها ولكن يجب ان يتمسك احد الخصوم بهذا البطلان اما فيما يتعلق ببطلان حكم التحكيم لمخالفته النظام العام المصري فتقضي به المحكمة من تلقاء نفسها حيث تنص المادة 53/2 علي انه ” تقضي المحكمة التي تنظر دعوي البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم اذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية ” ولكن تصدي المحكمة في هذه الحالة من تلقاء نفسها يقتضي ان تكون هناك دعوي بطلان للحكم منظورة امام المحكمة بسبب توافر احدي حالات البطلان الواردة في البنود السبع المشار اليها .
واتساق الحكم مع النظام المصري كما أسلفنا يعد شرطا لصحته وشرطا لتنفيذه.
وملخص ما سبق انه يجب لتنفيذ حكم التحكيم يجب الا يكون مخالفا لقاعدة موضوعية من قواعد النظام العام على النحو الذي أسلفناه بالنسبة لمفهوم النظام العام في مصر كما يجب ان يكون التحكيم في الامور الذي يجوز الصلح فيها ولا تخالف قاعدة امرة في القانون المصري.
هشام عبد العظيم احمد السيد
- محام بالاستئناف العالي ومجلس الدولة
- ماجستير في القانون الدولي جامعة عين شمس
- مؤلف كتاب إجراءات الدعوي التحكيمية وأسباب البطلان
Contact Us
- 01006437308 -- 01111384434
- info@evolve-lawfirm.com
- El Serag Mall, Tower 3, Gate 4, Makram Ebaid St. - Nasr City, Cairo
Copyrights © 2022 MK Team Solutions | All rights reserved.